مقالات
تريند

حسين خوجلي يكتب: التوبة بالصفعة

سوداني نت:

أصحابي بالجامعة من أهل السياسة مُدَخرون بالأفكار والأقدار، وأصدقائي بها متاحون بالأشعارِ والأسرار.

كان من أقرب الناس لي صديقٌ من قبيلة الثقافة والآداب والفنون، كان شاعراً رقيقاً وقارئاً من الدرجة الأولى، ورغم إجادته للشعر والقصة والنقد إلا أنه كان خائبًا في العلاقات العاطفية. فليس في جسده موضعٌ إلا فيه طعنة لحظٍ أو جرح إزورار.

وكنت دائما ما ألاطفه معزياً: مشكلتك يا مهيار -وهذا هو الاسم الحركي لصديقنا- أنك لا تقدم دراسة جدوى بين يدي علاقاتك القاتلة

واثناء حديثنا مرت إحدى الفاتنات التي تعلق بها طويلاً وفارقته رغم القصائد الجياد التي كتبها في حقها وشاع في كراسات الأخريات.

قلت له معابثاً: لقد ذهبت كالأخريات.

فقال في حزن بالغ: فلتذهب فهي ليست اكثر خلوداً من المذابح والحضارات.

فوجئت بعد فترة وقد شغلتني عن الصديق شواغل السياسة، أن الفتى الرومانسي النحيل كاد أن يصل مرحلة الإدمان. فالخمر دون الكبائر الأخرى تصيب معاقرها بالرائحة والخور، ولا يملك للأسف لها ستراً ولا خفاء. ومما كان يقوله الصالحون أنها اذا استفحلت تضرب المروءة وتجعل صاحبها ديوثاً لا يأبه لعرضٍ  ولا لوطنٍ  ولا لعقيدة.

وبالرغم من أن للسودانيين حياء غير مبرر في النصيحة حتى للذين يقدِرون ويحبون، فقد كسرت القاعدة وجلسنا في مكان قصي، وقلت له بلغة شاعره: استحلفك بالله يا مهيار ألا تفجعنا فيك ولمْ أزد. بكى على كتفي بكاءً مراً، وافترقنا ولم نلتقي بعدها زمانًا وقد اظلتنا اجازة دراسية طويلة قطعت بيننا من تواصل وتلاقي.

وفي بداية العام الدراسي الجديد انتابني فرح خرافي، حينما شاهدت مهيار بكامل صحته وعافيته وأناقته القديمة وحضوره السعيد. وقبل أن يجيب على تساؤلي المخبوء في لهفة الترحاب اختلى بي وقال: ودون أن تسأل اليك الحكاية.

قال بطريقته الموحية في السرديات: إن والدنا الراحل قد ترك لنا الحوش الكبير وأوصانا أن يكون الديوان وغرف الضيوف خلوة مفتوحة ليل نهار لأهلها القادمين من الولايات. يقضي فيها المرضى والمسافرون وأصحاب الحاجات أيامهم في العاصمة دون حاجة لإيجار أو نزلاً عند غريب، وتحرص الوالدة أمد الله في أيامها على القِّرى والترحاب والعناية.

في إحدى الليالي أتيت ما بعد الثانية صباحاً طرقت الباب في عبثية وإزعاج وقد امتلأت سكراً وطرباً، فتح شابٌ درويش الباب وأدخلني وأوصد الباب ورائي. واكمل صلاة ليله وما زالت تتردد في أذني قراءته المباركة رغم السكر من سورة الانسان (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)

ألقيت بنفسي وبأوضاري ورهقي وحذائي في أقرب سرير، ورحت كالميت في سبات عميق، لكن فوجئت بقبضة قوية ترفعني من فراشي وسباتي، كانت يد هذا الفتى الصالح الذي فجعني بصفعة عارمة زلزلت كياني وأعادتني في سرعة البرق من عالم الغيبوبة إلى عالم اليقظة وقال لي بنبرة صلبة وجاسره:( أتنام أيها الغافل وأنت مخمور حتى إذا أتاك الموت في نومتك الفاجرة هذه تموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله)

دفعني أمامه صوب الحمام كالطفل وأدخلني عنوةً فكنت أسير أمامه كالمنوم مغنطيسياً، أغلق باب الحمام ورائي وبدأ يلقنني بواجبات الغسل الشرعي، وظللت اغتسل حسب أوامره الشرعية، وأمرني بعدها بوضوء الصلاة.

غاب للحظات وعاد ( بعراقي دمور ) نظيف جديد (وسروال) وعطر زيتي. سبحان الله!!! فبمجرد أن خرجت تدفق آذان الفجر من المسجد المجاور فملأ روحي قبل أن يملأ الآفاق. خرجنا وصلينا صلاة الفجر وقرأنا جزءً من القران وعدنا للمنزل، وطيلة ساعات هذه الأحداث لم أحدثه بكلمة ولم اتملى في وجهه ولا في عينيه.

دلفت إلى مطبخ الحاجة لإحضار الشاي والزلابيا الراتبة لضيوفنا، لكنني لم أجد للفتى أثرًا وكأنه جاءني من السماء ليهديني هذه الصفعة الراشدة، ويمنحني هذه التوبة النصوح.

ضحكت ملياً لأنه حين تحدث عنها كان يتحسس خده في رفقٍ وهدوء.

ولأن الدول تشبه أفرادها فقد تمنيت أن يتنزل علينا رئيس مؤمنٌ منتخب بصفعةٍ مزلزلة تُمسك عنا قمح الاغاثة والمزلة والاستدانة، وتحيلنا إلى سهولنا ومياهنا وأيادينا العاطلة.

ويقولها في بيان جهير (اقسم بالله العظيم وكتابه الكريم إني بنهاية هذا الشهر لن استورد طعامًا قط من خارج السودان، تكفينا مهانة اليد السفلى زمانًا وتكفينا سخرية الآخرين دهرا. أنا شخصيا قررت ادارة البلاد من مدينة بركات واحياء مشروع الجزيرة وبعثتُ وزير الثروة الحيوانية إلى كردفان، ووزير الزراعة لدارفور، ووزير الموارد المائية والطاقة إلى شرق السودان، ووزير الصناعة إلى الشمال الكبير، ووزير الشباب بكل مشروعات التنمية إلى النيل الأبيض، ووزير الاستثمار إلى النيل الازرق وسنار، وزير التعدين إلى جبال النوبة.

ومن أراد من هذا الجيل قوتاً وقوةً وأسرة ومستقبلاً فليلحق بنا في الريف الجديد، فلقد يئسنا من تبديد حياتنا في خدمة المستهلكين واهمال المنتجين.

واعلموا أن لدين الأغلبية ربٌ يحميه واقصروا عنا الأقوال واشيعوا بيننا الأفعال،فقد قالها العارف قديماً (لا دين بلا عجين). قال تعالى ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

والسلام عليكم ورحمة الله

 

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٣)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٤)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٥)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٦)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٧)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٨)

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٩)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!