مقالات
تريند

الباحث عثمان برسي يكتب: البدوي …. كإقتصادي … سياسات رفع الدعم ومتلازمة الفشل الإقتصادي (2)

سوداني نت:

نطرح سؤالاً كبيراً يتعلق بتفتيت القوى الإجتماعية والسياسية للثورة واندفاع البدوي صوب قرارات شديدة الوطأة كهذه لتكون سياسات رفع الدعم، وإقتصاد (الفقاعة)(التضخم الإسمي للاجور)، عنواناً كبيراً للاضطراب ،وتعزيزا للتضخم الجامح الذي أسقط عتاة الأنظمة الديكتاتورية ،واطاح بالتجارب الجنينية في مهدها في الديمقراطيات الوليدة ،حيث حاولت السلطة السياسية والمعرفية للنظام البائد التهرب منها وتعمية الجماهير عن الأزمة متعللة بعدم دوران عجلة الإنتاج وكثافة أعمال تهريب الوقود المدعوم في ظل انفلات أمني كبير،

بالرغم من أن هنالك دور كبير أيضاً من الأزمة كان مفتعلا، تم اعتباره أبرز ممارسات مايسمى ب (الدولة العميقة) وصارت توصف به الأجهزة الاستخباراتية في تحالفها مع بيروقراطية الدولة وطبقة الهيمنة الإقتصادية والاحتكارات الموروثة.

لا نجادل أن الأزمة الإقتصادية تعد أحد أبرز أسباب الخروج الشعبي ضد النظام البائد، وإستلهمتها القوى السياسية كغطاء جماهيري و بنت حركتها عليه، لكن المشهد الآن (الذي يقوده الطاقم الإقتصادي للبدوي) أظهر مدى جذرية الأزمة وارتباطها بعجز واقعي، وخلل منظومة الدعم ليست تلك المتعلقة بالقوة الشرائية للجماهير في حد الكفاف ، بل خلل منظومة الدعم المرتبطة (بالسياسات) التي يقود منهجها الفكري الطاقم الإقتصادي الحالي للبدوي، والتي بدلا من أن تعمل على التعافي في المؤشرات الإقتصادية نجدها تزيدها خبالا، وارتباط كل هذا بإختلالات النموذج الإقتصادي المنتج للتفاوت.

لا سبيل لعزل حديثنا عن إصلاح منظومة الدعم من دون حديث جدي وجذري عن مشكلة التفاوتات الإقتصادية الكبرى وتفكيك جذورها الهيكلية الكامنة في الإقتصاد السوداني.

ماليا نجد أن الدعم الموضوع في جانب المصروفات، يقابله نظام ضريبي بالغ السوء بقاعدة ضيقة وقواعد جباية غير عادلة وغبن متأصل في توزيعه غير العادل لاعباء تمويل الدولة، أو في ضآلة حصيلة الضريبة التي لا تجمع بكفاءة والتي تفتقر إلى آليات للحد من ظاهرة التهرب الضريبي التي تمارسها طبقة رجال الأعمال السودانيين والشركات.

من جهة أخرى لا تتوافر منظومة للضمان الإجتماعي يمكن التعويل عليها في تقليل أثر القرارات القاسية المتعلقة برفع الدعم عن الطبقات المسحوقة، مما يشكل تحدي في عدم وصول المنافع إلى السواد الأعظم من المستهدفين، وهي أولى نذر فشل هذه السياسات، فيجب كشرط ضروري أن تسبق سياسات رفع الدعم سلسلة من الإجراءات الإقتصادية تكفل إنعاش حال الفقراء ،بما يمكن أن يعوضهم في حال هددتهم التطورات السعرية وبما يقيهم آثارها التضخمية.

مسألة الحد الأدنى للأجور هى الحاكم الفعلي ومازالت إشكالية لم يستطيع العقل الاقتصادي سبر اغوارها، لأنها هي التي تقيس من الذي يستطيع أن يقاوم أسعار السوق ومن يرجع مكسورا. . وصعوبة تكلفة سياسات رفع الدعم هنا تأتي تعقيداتها الكارثية إنها لن تستطيع أن تفرض منظومة عامة لإلزام الشركات والمؤسسات به في القطاع الخاص (فرض في القطاع الحكومي وحده) ،كما لن ترتبط الأجور صعودا وهبوطا بمعدلات التضخم مما يعني أن أي زيادة تضخمية في الأسعار ستبتلع الجنيهات التي أضيفت لدخول العاملين. .

هنالك قضية جوهرية حيث يعتبر مبلغ الزيادة الكلية في الأجور ضخما حيث بلغت الزيادة 569% وهذه الزيادة كافية تماماً لتنشيط السوق سلبياً وليس إيجابياً. .وحديث الوزير مجافي للحقيقة حيث أشار إلى عدم حصول تضخم. .إذن أين تذهب هذه الأموال الضخمة؟ اللهم إلا إذا قام العاملين بإدخارها ولم يذهبوا بها إلى السوق، هذه هي الحالة الوحيدة التي تجعل هذه الرواتب لا تسبب تضخما، وهنا لكي تستجلي هذه القضية تقف على مصيدة الدخل، يمكنك أن ترجع بالوراء إلى الأزمة المالية العالمية التي صنعت انكماشا كبيرا في الإقتصاد الأمريكي وللخروج من هذا الانكماش وتحريك الأسواق والإقتصاد قامت السلطات النقدية بتغذية حسابات المواطنين بمبالغ معتبرة في حساباتهم المصرفية من أجل زيادة الاستهلاك وبالتالى رفع نسبة التضخم التي كانت في أقل درجاتها (0.3%) وبذلك يستطيعون تحريك الأسواق والتصدي للكساد. . ماذا حصل؟
كانت النتيجة عكسية فبدلاً من زيادة التضخم إلى 2% كما هو مستهدف انخفض التضخم من 0.3% إلى 0.1%. .ماهو السر الإقتصادي وراء ذلك بالرغم من التوسع النقدي. .كان الأمر يصعب تفسيره على صبية شيكاغو النقديين. .تفاجأ صناع السياسة النقدية في البنك المركزي الأمريكي (الفيدرالي) أن المواطنيين يدخرون المبالغ الطائلة التي دخلت حساباتهم في البنوك لأنهم دخلوا مرحلة انعدام الثقة وعدم اليقين فصاروا خائفين من المستقبل فإنخفض استهلاكهم للتحوط للمستقبل في ظل وضع انكماشي ليس من المعروف متى ينقشع. . هنا ياسيدي الوزير نرجع لمعدل سرعة دوران النقود التي هي السبب في أن معدل التضخم يزيد أو ينخفض وليس شيئاً آخر. .فالشعب الأمريكي بسلوكه نحو زيادة مدخراته قد قلب السياسات النقدية للحكومة الأمريكية وامتنع عن رفع نسبة التضخم وبالتالي انخفضت سرعة دوران النقود. .وبالتالي طباعة النقد بكميات ليس هي سببا في حد زاتها للتسبب في التضخم بل سرعة دوران النقود (MV) ،هنا سنرجع إلى مقولتك عن أن هذه النسبة من الزيادة في الأجور لن تزيد التضخم وان التضخم تاريخيا في زيادة بالرغم من ثبات الأجور سابقا. . من المعروف أن هنالك زيادات في الأجور في خلال ال 30 سنة السابقة بمعدلات مختلفة هذا أولا وهذه الزيادات بغض النظر إن كان لها أثر مباشر بالإسهام في دفع التضخم أم لا؟؟

ولكنها ليست كل القصة ف قضية التضخم متراكبة مسبباتها من أثر التكلفة، إلى استيراد التضخم، إلى مساهمة البيروقراطية في الخدمة المدنية، وكذلك عدم كفاءة السياسات وإلى جودة التعليم، كل هذه المجالات تزيد وتسهم بنسب معينة في زيادة التضخم، لكن هذا لايعني أن مكون السياسة الجديدة في زيادة الرواتب في الهيكل الأخير، كما في السابق لن تؤثر لأنك انت هنا حركت أثر وسياسة، وبالتالي لابد من ردة فعل، حتماً ستدخل هذه الزيادات في الرواتب إلى السوق وحتما لن يدخر الموظفين في القطاع الحكومي هذه الأموال وحتما لن يكونوا مثل الشعب الأمريكي. .سيدخلونها في الدورة الإقتصادية وكقاعدة إقتصادية تعلمناها في البكالوريوس في الجامعة ستزيد من سرعة معدل دوران النقود، وبالتالي ستحقق معدل من نسبة التضخم بالزيادة أي كانت، هذا لا مفر منه إلا اللهم إن كانت لهذه الرواتب الجديدة طاقة سحرية لايعرفها الاقتصاديين.

هنالك قضية خطيرة فيما يتعلق بأثر زيادة الأجور في القطاع الخاص لا سيما أن مفاوضات البدوي ستبدأ مع هذا القطاع ،
ويعتبر ذو عمالة أضخم، بالتالي تحقق شرط زيادة التضخم لا مفر منه، وذلك لأن ذلك مرتبط بمستوى ربحية القطاع وحيث تكون أرباح الشركات كبيرة جداً فإنها لن تنقل الأثر المتعلق بزيادة الأجور على السلع المنتجة، وبالتالي لن تتأثر معدلات التضخم، وفي هذه الحالة كما هو معلوم ليس لدينا شركات الآن في الواقع الإقتصادي يتوافر لديها أرباح تستطيع أن تعبر بسياسات الأجور إلى بر الأمان بسلام. . خاصة أنها مثقلة بشراء الدولار بالسعر الموازي، بالإضافة إلى التكاليف الإضافية المرتبطة برفع الدعم عن الطاقة.

التضخم سره باااتع ويختلف من ماهو موجود في النصوص الأدبية الإقتصادية النظرية، فطبيعة الإستهلاك في السودان وسلوك جهاز العرض (الانتاج) وطريقة سلوك تجار التجزئة صنعت مايعرف ب (تكلس التضخم الارتدادي. . التسمية من الباحث ) وهو نوع من التضخم لايستجيب للسياسات سواء زيادة الإنتاج كما يزعم البعض، أو حتى تحسين صورة العملة المحلية ،وبالتالي لو اجهدت نفسك في جولة سوقية ستجد عدم تحقق العلاقات السببية والروابط. .

ماسبق يقودنا إلى حكمة إقتصادية كلية، حيث أن السياسات التي تقوم بتطبيقها الآن في الحاضر لم تكن موجوده في الأساس قبل 50 عاما أو قل 100 عام ،إنما هي مسار طويل من تشكيل نماذج ونظريات في واقع هيكلي /نفسي /إجتماعي والإشكال هنا ، انها لن تجدي نفعاً لأن تروس الهيكل تختلف فالسؤال، كيف لنا أن نستجلب آخر السياسات ولا نستجلب المؤسسات لأن السياسات ستعمل بطريقة عكسية عن المؤسسات التي أنتجتها وهنا مربط الفرس. .

عموماً ،أن التشوه العميق في بنيان الإقتصاد السوداني سيستمر ،وهذا النكوص عن الحلول الجذرية لقضية التفاوت الاقتصادي يعكس النظرة القاصرة التي تغلب على وزارة البدوي، والتي تدفعها صوب رفع الدعم ،في وقت لا تندفع فيه بالوتيرة نفسها صوب تعديل موازي ومكافئ لتحسين الأجور والدخول الفعلية (النموذج الإقتصادي /سياسة الجزر المعزولة للمؤشرات الإقتصادية ) وليس سياسات إقتصاد الفقاعة (الأجور الاسمية ) هنا يظهر الجواد الإقتصادي الأصيل. .وهنا تقبع مهمة الإقتصادي الكبرى. .

مازالت سياسات الاقتصاد الموروثة منذ سلطة 1989 البائدة وإلى طاقم المالية الجديد بمستشاريه تغفل الأجر (العادل ) كمحفز للإقتصاد ،ولم تدشن نماذج من الشراكات العمالية التي أتبعت في العديد من الدول المشابهة لأحوال السودان الإقتصادية (كوريا الجنوبية ) وفق النموذج الذي ينبثق من الحاضنة الإجتماعية، وليس نماذج( اطفال الأنابيب)، وبالتالي تحقيق نمو يكفل عدالة التوزيع، بدونه لن يستقيم الميسم ولو امطرت السماء ذهبا في جيوب الخدمة المدنية. .وهنا لايفوتني أن أذكر أن تحفيزات الأجور الأخيرة بسبب زيادة الأداء في الخدمة المدنية لن يجدي نفعاً لأن المعادلة أصبحت في قول الشاعر :

موضع السيف موضع الندى مضر كموضع الندى موضع السيف ،فالأولى حقنها في سلم الميزة المقارنة التي تمتلك فيها نقاط قوة.

يعد تركيز السياسة المالية للدولة على حل مشكلات جانب النفقات بتقليل مايتلقاه الفقراء من دعم مع استهداف معدلات نمو عالية، هو إهمال للتوزيع العادل لعوائد هذا النمو و حق الفقير في خدمات الصحة والتعليم وتمتعه بأشكال الضمان الإجتماعي على اختلافها، وسيظل ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى عدم ترجمة النمو إلى تحسين فعلي في مستوى معيشة الفقراء.

تتوقف فرص نجاح البدوي وحكومة حمدوك في تمرير هذه الإجراءات القاسية على قدرة التحالف المساند لهما على استيعاب الغضب الشعبي وامتصاص الصدمة، وتطلع رجال الأعمال والقطاع الخاص(من أصحاب الحظوة ) نحو مزيد من المزايا والامتيازات التي يحصلون عليها، ويبقى خيار المواجهة مع الفقراء حتميا ،في حال تضاؤل فرص مشروع (مارشال ) الخليجي، الذي يعد به المانحين حكومة حمدوك ،حيث لا مجال للضغط على الفقراء، ولا فرصة لأي تعويل على القهر وآليته في ظل نذر موجة غضب شعبي جديدة، إلا بتقديم رشوة كبيرة للفقراء، أو إتخاذ سياسات صدامية ضد أصحاب الثروات.

إن أي سياسة تنموية في سودان ما بعد الثورة، لا تضع مسألة مكافحة الفقر جذرياً في مقدمة أولوياتها، هي سياسة محكوم عليها بالفشل على المدى الإقتصادي الطويل (إن أفلتت من الهجوم الشعبي المباشر في المدى القصير، إذ لا سبيل إلى علاجها إلا بالنمو العادل، وحده مايكفل تعزيز الإستقرار الإقتصادي وعبور الأزمة.

[email protected]

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٨)

إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٧)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!