مقالات
تريند

عادل عسوم يكتب: أنا والنجم والمساء

سوداني نت:

قيل بأن وردي عندما غنى عثمان حسين هذه البديعة قال:

[عثمان حسين دا، كأنو بياخد ألحانو دي من عالم الجن]!.

وقد صدق…

فهو يعلم يقينا مهوى قرط اللحن على جيد النص، وهو صاحب عشرات الأعمال الغنائية التي شكلت وجدان الملايين من الناس داخل هذا الوطن وخارجه.

كم تأسرني ماتعة بازرعة وعثمان حسين هذه يا أحباب…

لعمري إنها من خوالدنا اللاتي تكامل فيها أركان الإبداع شِعْرَاً، ولحنا، وأداء…

الزمان؛ خواتيم العام 1959،

والمكان؛ ثغر السودان الباسم

.Port Sudan

والشاعر؛ شاب في عامه السابع والعشرين، عصف به هوى إحدى حسناوات ديم سواكن، فإذا به يخلّد حبه بكلماتٍ عَرائسَ، ذوات أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يتدثرن بقرمصيص العشق البشري في أبهى معانيه، وعلى الرأس منهن ضريرة مَحَنّة قد ملأت شغاف قلب شاعر صَنِّفَه النقاد بأنه من وادي عبقر، وذلك منذ ولوجه لعوالم الشعر الغنائي من خلال قصيدته البهية (القبلة السكرى)، وهو الطالب حينها في المرحلة الثانوية!، وقد فازت قبلته السكرى بجائزة مسابقة شعرية شهيرة درجت مجلة (هنا أم درمان) على تنظيمها خلال الخمسينات.

إنه الشاعر المرهف:

حسين محمد سعيد بازرعة.

إبن مدينة سنكات التي ولد فيها عام 1934 لأسرة تتصل جذورها  بحضرموت اليمن السعيد، وتلقى تعليمه في مدرسة سنكات الأولية، ثم انتقل إلى بورسودان ليدرس فيها المرحلة الوسطى، ويلتحق بعد ذلك بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، حيث تبلورت في رحابها شاعريته الغنائية الفذّة، وهو الطالب المتفوق في تحصيله الأكاديمي، لكنه انشغل بالسياسة ليتم فصله في السنة الثالثة.

أنا والنجم والمسا؛ تعد من روائع شعرنا الغنائي الفصيح، وهذا السمت الشعري قد غلب على جل أشعار راحلنا الجميل بازرعة، وهو المعهود عنه حبه للفصحى، وكذلك للغة الانجليزية.

وقد نظم شاعرنا الجميل العديد من القصائد الغنائية جمعها في متن ديوانين شعريين هما:

* البراعم.

* سقط المتاع.

وقد غلب على شعره الجانب العاطفي بجانب حب الوطن، لكنه لم يخل عن قصيدة ألفها بمناسبة الذكرى الأربعين لإنتفاضة الأراضي المحتلة بعنوان عرس الأربعين في يوليو 1997.

ومن قصائده الغنائية الشهيرة:

القبلة السكرى.

أنا والنجم والمسا.

بعد الصبر.

ذكرتني.

لا وحبك.

من أجل حبي.

شجن.

الوكر المهجور.

عاهدتني.

أرضنا الطيبة.

الفرقة من بكرة.

أجمل ايامي.

وقد تلقف جل هذه الأشعار الهَرَمُ في عوالم الغناء عثمان حسين رحمه الله، فشكل ثنائية تعد من أولى الثنائيات في عوالم الغناء السوداني.

مسرح القصيدة:

(مدينة بورسودان الجميلة).

ابتدر شاعرنا حياته العملية فيها موظفا في مكتب شحن وتفريغ، وقد كانت للرياضة مساحة كبيرة في حياته، فالتحق بفريق حي العرب العريق لاعبا لكرة القدم فيه ثم ادارياً ليصبح سكرتيرا عاما للنادي.

يقدر الله أن يقع الشاعر الشاب في غرام إحدى حسناوات بورتسودان وهو المحب للحياة، لكنه كغيره من أبناء الأسر النبيلة كان حَيِيّاً، والحياء كما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله لايأت إلاّ بخير…

جلس بازرعة ينتظرها على مقعد من المقاعد المواجهة للبحر، فإذا بها تتأخر عن الموعد، ويطول به الانتظار ليسلمه المساء إلى ابتدارات الليل…

وإذا به لوحده على مقعده يحدق في أمواج البحر الأحمر المتكسرة -في هدوء- على الشاطئ الممتد إلى البعيييييد…

والأنجم شرعت تبرق في السماء…

وكلما سمع صوتا او لاح له بارق ظنها آتية…

فخيم الظلام على الأرجاء…

فإذا بالكلمات تتساوق أمام ناظرية لتخلّد لنا المشهد الحزين في ثنايا هذه البكائية المحتشدة بالرومانسية الفخيمة:

أنا والنجم والمساء

ضمنا الوجد والحنين

كم يبدع بازرعة في هذا البيت!…

لكأني به يبتدر ب(ملموسات) ومباني تتمثل في شخصه/ والنجم/ والمسا…

أما تتمة البيت فهي (محسوسات) ومعاني تتمثل في الوجد/ والحنين!…

لقد كان ذاك اللقاء فارقا حيث سبقه لقاء ألقى في روعه إحساسا بإيشاك حبهما على الذبول والموت، وهو الذي عنه بقوله:

جف في كأسنا الرجاء

وبكت فرحة السنين!

إنه ينعي حبهما وقد تبين له يقينا بأن المشاعر التي لاترجح لها كفّة قد عطب ميزانها وتناقصت مثاقيلها…

ياللإبداع وهو يصف رجاءه فيها بشراب قد جف عنه الكأس، وإذا به يبس خواء…

أما فرحة سنيهما الماضيات، فقد احالها إلى أنثى تبكي على تلك النهاية، والبكاء دوما ألزم للنساء…

تأملوا كيف صاغ عجز البيت فأنّث السياق حين قال؛ وبكت (فرحة السنين)!…

ثم شرع يخاطب الشاطئ، والشطآن دوما ترمز للغد لكونها منتهى الأمواه والأمواج…

آاه يا شاطئ الغدِ

أين في الليل مقعدي؟!

أين بالله موعدي؟!

فالليل قد أرخى عليه سدوله…

وبدت معالم المقعد تخبو رويدا رويدا، تماما كموعده الذي أصبح يتلاشى مع مقدم الليل…

وأيقن بأنها يستحيل أن تأتيه بعد انقضاء النهار، وهي التي أحبته في النور…

ويتواصل النظم الجميل فيقول:

عطر أنفاسها صبا!

يااااه

شبه أنفاسها العاطرة بنسيم الصبا، ولعله في ذلك يقتفي أثر امرؤ القيس عندما قال:

إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ!

ولكن بازرعة لم يكتف بذلك، بل أضاف أبعادا أخرى للمشهد الجمالي عندما وصف (صباها) وماتحتشد به من مشاعر وأنسنة فقال:

تحمل الشوق والصِبَا

والخيالات موهبا!

أما تمام الإبداع فيتمثل في هذا البيت:

وأنا كلما دنا

طيفها الحلو وانثنى

عادني الهم والضنا!

إنه يجعل من طيفها وهو ال(محسوس)، ملموسا يتثنّي كما قوامها اللادن، فإذا له (طعم) يتغشى الحلق، بالرغم من كونه مشهد يرتهن برؤية العينين!، وتلك لعمري نصاعة وبلاغة في الوصف تُعجِزُ الشعراء المجيدين!

وإذا بالكلمات تصل إلى عبقري وربان زورق الألحان عثمان حسين، لتأسره في سرابات القصيدة جزالة المعاني ورصانة اللغة، فيعمل فيها (مقص) ألحانه السندسية ليلبسها ثوبا قشيبا يتسق مع جمال السياق…

وبهاء مرادات الكلمات…

وثراء عراجين ثمار القصيدة.

ثم يؤديها بِسَمتِ كمالٍ بشري لايضارع، ولا اخاله يتكرر!.

اليكموها كاملة:

أنا والنجم والمساء

ضمنا الوجد والحنين

***

جف في كأسنا الرجاء

وبكت فرحة السنين

آه يا شاطئ الغد

أين في الليل مقعدي

أين بالله موعدي

***

يا خطاها على الربا

عطر أنفاسها صبا

تحمل الشوق والصبا

والخيالات موهبا

وأنا كلما دنا

طيفها الحلو وانثنى

عادني الهم والضنا

انا والنجم والمساء

***

في الدجى شاق مسمعي

صوتها الملهم النغم

في الهوى هاج مدمعي

حبها الخالد الألم

كلما لاح بارق

من محياها خافق

مات بالهم عاشق

انها رقيتي التي

خلدت لحن شهرتي

ألهبت ليل وحدتي

بالأسى والصبابة

****

يا ربا البحر أشهدي

هاهنا كان موعدي

وهنا كان مقعدي

أنا والنجم والمساء

[email protected]

 

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٩)

إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٨)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!