مقالات
تريند

عادل عسوم يكتب: عوالم القطارات

سوداني نت:

قبل بضع أعوام قُدِّر لي أن أمثل الشركة التي أعمل فيها خلال فعاليات ورشة عمل ضخمة للتحضير -بل الشروع- في إنشاء شبكة للخطوط الحديدية تغطي كل أرجاء المملكة…
الحق أقول لقد خرجت من هذه الورشة مبهورا بالفوائد الكثيرة والمثيرة التي يمكن لأيما دولة أوشعب جنيها عندما تصبح السكة الحديد الوسيلة الأعلى كعبا في النقل بكل أشكاله؛ إن كان خلال المدن أو بينها، واليكم هذا المثال الذي يدل على أقل الفوائد التي ذكرت خلال تلك الورشة:
من حيث التكلفة المادية لنقل طرد بريدي بين مدينة وأخرى فإن المقارنة تقول بأن النسبة هي كالآتي:
عُشر القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والطيران).
ربع القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسيارات).
نصف القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسفن).
ولعل ذلك بديهيا، ولعل ذلك بديهي، لكن الذي جعلني أتوقف كثيرا؛ تقرير من وزارة البيئة يتحدث عن التلوث البيئي الذي تحدثه السيارات على الأجواء في المدن، لا يكاد المرء الاّ أن يضع كلتا يديه على رأسه مذهولا بالأرقام ال(صادمة) للتلوث الحادث!
وبالطبع فان الغاز الأهم المسبب للتلوث هو غاز أول أوكسيد الكربون Carbon monoxide، دون غازات أخر لاتقل عنه ضررا، وهنا أجد أنه يلزمني الاشارة والاشادة بالتقرير الصادر عن دولة الامارات العربية المتحدة التي دشنت -قبل عامين- شبكة قطارات بديعة تربط جزءا لابأس به من الدولة، فقد انخفضت نسبة التلوث في دولة الامارات العربية المتحدة من غاز أول أوكسيد الكربون الى أقل من (10ppm) فقط بعد أن كانت أكثر من ذلك بكثيييير!
ولعلي أكتب لاحقا عن موضوع التلوث البيئي نتاج استخدام السيارات -بالذات- والمقارنة مع الحال بعيد انشاء شبكة للقطارات سردا للكثير من شواهدي، أو مما أعلمه منها واسقاط ذلك على السودان والعاصمة الخرطوم، وذلك من خلال سياق آخر بإذن الله…
ليت السكة الحديد يا أحباب تعود إليها عافيتها، وليت (قطار الشوق) يستفيق من سباته ليوقظ فينا الكثير المثير، ولا يهم أن يكون مزعجا يصيح فينا (الدغفلي قلبي انقطع)، ولا يهم أن يكون كهربائيا يخفت صوته الاّ من أزيز، انما المرام والمرادات أن تبثّ الروح -في الجدث-من جديد …
إذ لعمري كم يحار المرء لِمَ لَمْ يولي أهل الحكم هذا المرفق الحيوي ماينبغي له من اهتمام؟!
فلا يكاد المرء يتبين الاّ نوايا ونُذُراً من مقدمات تطل برأسها في حياء فتاة!
أما الذكريات، فإن نسيت فلا أخالني أنسَ (سَقَط أبوحمد) الذي أقسم جادّا بأنه يفوق شتاء مدينة (لوبك) الألمانية عندما يتجمد بين يديها -أحيانا-بحر الشمال!
يومها قال لي سوداني التقيته في تلك الفيافي وهو يطبق بيسراه على عنق زجاجة خمر:
-يازول ربنا قال في ال(وسكي) دا انو فيهو منافع للناس فكدي تعال أشرب ليك كاس وشوف لو تاني جاك سَقَط هههة
فما كان مني الاّ أن تأبَّيتُ عليه مستعصما بديني وقلت في نفسي:
ألا ليت لي ب(زلابية أبو حمد)!
انها حقا ترُمُّ العضم كما يقولون…
تجلس الى ست الشاي القابعة من خلف كثبان رمال محطة أبو حمد فترى بوخ الزلابية ال(من نارا) مفلطحة كما يجب تخالط أبخرة كفتيرة الشاي المشدودة على أثافِ من الضانقيل فلا يلبث الاّ أن يتسرب اليك الدفئ قبل أن تشرع في التهام عشرات منها مع شاي اللبن الذي دونه (أسكت كب) اللّت أهلنا ديك…
إذ أني وبحكم مولدي في الشرق وتجذري للشمال قد اكتنفتني عوالم القطار…
ولكن بقى ل(قطر كريمة) بصماته وشواهده في الذاكرة كما ألوان قوس قزح…
ولعل ولعي بالقطار جعلني أتخيره أينما يممتُ…
فخلال تسفاري في مفاصل أوربا مافتئ القطار هو الوسيلة الأحب لي خلال تنقلي بين مدنها بل حتى بين دولها وان نسيت فلا أخالني أنسَ رحلتي من لندن الى باريس من خلال نفق المانش منها جنوبا الى مدينة نيس وكل ذلك قد كان عن طريق القطار!…
وكذلك اعتدت السفر فيه من مدينة فرانكفورت الى أقصى الشمال الألماني الى مدينة لوبك على قطارٍ لهم يسمونه ال(I.C.E) حيث أنتقل منه الى آخر في مدينة هامبورق ومنها الى أقصى شمال هولندا الى مدينة (خورونيقان) التي يعيش فيها شقيقي الأكبر …
ومنها كذلك الى مدينة (مدل بيرق) في الشرق حيث كتبت من قبل عن زيارة عمل لي الى شركة (Chrompack) الرابضة على مرتفع تكسوه (ملاءة) من الورود الملونة البديعة حيث التقتني في مدخل الشركة حسناء هولندية ممشوقة انحنت لي مرحبة وقالت (خدو مداخ)…
ثم العودة الى مطار (أشخبول) في أمستردام حيث تربض طائرات الKLM…
ولكن يبقى للقطار الآيرلندي طعمه وألقِهِ برغم علو كعب الICE الألماني عليه…
ففي الخاطر احدى رحلاتي على هذا القطار الذي ينطلق من دبلن العاصمة الى بغيتي وهي مدينة شانون الأنيقة…
وللقطار الأمريكي عوالمه كذلك…
فإن نسيت فلا أخالني أنسَ محطة قطارات (فلا ديلفيا) أو (فيلي) كما يسميها الأمريكان…
أكاد أجزم بأنها بالفعل أكبر محطة للقطارات في العالم!
وصلتها وقد كنت في طريقي من مدينة (بتسبيرق) الكائنة في ولاية (بنسلفانيا) وذلك بعيد اكمالي لفترة تدريبية في شركتين تتواجد مقراتهما في مدينة صغيرة بجوار بتسبيرق واسمها (بيت لحم)…
ولعلي قد انتابني ذات الاستغراب الذي أخاله قد انتاب كل قارئ لاسمها دهشة من وجود مدينة بهذا الاسم في الولايات المتحدة الأمريكية!
اسم الشركة الأولى هو (GOW MAC) وهي تعمل في مجال تصنيع أجهزة الفصل الكروماتوقرافي والشركة الثانية هي شركة (BACHARACH) وتنطق الCH على أنها (كاف) وهذه الشركة تعمل في مجال تصنيع أجهزة فحص الغازات (gas detection systems &monitors)…
ومحطة فيلادلفيا ليست محطة قطار انما هي بلد بي حالا!
كنت في طريقي الى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا حيث يقيم نسيبي أحمد حسن عمر البدوي وهو من أبناء بورتسودان…
سحبت حقيبتي خلفي وترجلت من القطار الأنيق فاذا بالدنيا كلها أمامي…
المحطة كلها تندرج تحت سقف مبنى ضخم لم أر مبنى في ضخامته وسعته من قبل!
وقد كان ينبغي لي قطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام وسط مئات البشر المتراصين على المقاعد وبعضهم وقوف لكي أصل الى مكتب الحجز باحثا عن موقع القطار الذاهب الى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا من بين مئات القطارات الرابضة هناك…
وهنا ينبغي لي أن أكتب عن ملاحظة لم تزل تتبدى لي كلما ذكرت أمريكا أو تذكرتها…
يالهذا (اللوتري) الذي فعل بتلك البلاد الأفاعيل!
تلتفت يمنة ويسرى فيقع بصرك على جل تقاطيع أعراق الدنيا ان لم تكن كلها…
واذا بالناس يتحدثون بكل لغات الدنيا كما (الطير في الباقير)…
ولا أثر للغة الانجليزية على الاطلاق!
لا أدري…
لماذا لم ينصهر كل هؤلاء في بوتقة الوطن الأمريكي؟!
والذي يحار له المرء أنهم ليسوا كلهم قادمون جدد الى أمريكا…
فالكثير منهم قد ولد ونشأ هناك لكن يظل متجذرا لأصله وفصله لا تكاد تخاله ينفصم عنه!…
وقد تبدى لي ذلك عندما زرت المطاعم الصينية والآسيوية بل واللبنانية في واشنطن ونيويورك دون استثناء لمانهاتن!…
تلج الى المطعم فتحسب -بل تتيقن- بأنك خارج أمريكا الناطقة بالإنجليزية!…
ولعلي أذكر هنا مدير التسويق العالمي لاحدى الشركات التي ذكرتها وهو صيني الأصل وقد قال لي بأنه مولود في أمريكا أقسم لكم بأن لغتي الانجليزية لأفضل من لغته الانجليزية بكثييييير!
ولعلي أقولها:
أمريكا هذه تَحمِل بذور فنائها في داخلها لعدم انصهار كل تلك الأعراق والقوميات في بوتقة الوطن الجديد وتشبثها بأصولها لغة وثقافة وعقائد وتراثا ومظاهر اجتماعية.
ولعل الحديث عن وقائع التجسس التي قام بها صيني وياباني قبل سنوات لصالح (بلد الجذور) لدليل دامغ على ذلك!…
وصلت الى مدينة آرلنقتون الصغيرة …
انها مدينة تربض على مرتفع يطل على واشنطن العاصمة …
وصلتها خلال أمسية جميلة تبدت لي سماء أمريكا خلالها بأنها من الصفاء بحيث ظننتها قد غُسلت لتوها بالماء المقطر و(بُخَّ) عليها ملمّع الزجاج و(تُمِّرَت تتميرا)!…
لعمري أنهما زرقة وصفاء جعلاني أتشكك وأسائل نفسي:
هل هذه هي أمريكا التي يقال عنها بأنها أكبر الملوثين للعالم؟!
ويجدر بي أن أعرج أيضا الى القطار الماليزي الذي أحسبه من أجمل القطارات في العالم…
ولعل السبب في ذلك أنهم قد بدأوا من حيث انتهى الآخرون…
تستطيع أن تستقل القطار من داخل سقف مطارٍ لهم كم هو فخيم لينطلق بك ويطوف بكل أرجاء كوالالمبور وبتروجايا العاصمة السياسية مضافاً اليها مدن أخرى…
ولكم أدهشني كون هذا القطار يسير على (قضيب واحد فقط)!
ثم ان محطاته ماهي الاّ طابق علوي لعمائر سكنية عادية تصعد اليها من خلال سلالم كهربائية تجد في مولجها ماكينة التذاكر كما هو الحال في مداخل القطارات في كل المدن الغربية…
وخلال الأماكن غير الآهلة بالسكان ويسير القطار على أعمدة خرسانية شاهقة تدع المجال فسيحا على الأرض لأيما حراك يوده الناس…
لقد كانت تنقلاتي في ماليزيا عن طريق هذا القطار الأنيق الفخيم اذ أنه يتغشى كل الأماكن التي تستحق الزيارة فيها ومنها (CHINA TOWN) وهو سوق شعبي كبير مكتظ بالبضائع الماليزية والصينية منها الأغلب…
ولعله قد أخذ اسمه اتكاء على العرقية الصينية التي تكاد تسيطر على كل أرجائه فالعرقية الصينية ومعها الهندية قد سعى باني ماليزيا الحديثة الدكتور مهاتير محمد الى استجلابها لرفد البلاد بدماء تساعد على دفع عجلة الاقتصاد والتمدن فيها…
وقد أعلمني صديق يعمل محاضرا في احدى جامعاتهم بأن السبب في سعيه الى استجلاب العرقية الصينية والهندية الى ماليزيا قناعة خلص اليها بأن العرق الأساس في بلده أناس تكتنفهم ال(مسكنة) وعندما تضاف اليها ال(أميّة) فلن يكونوا عمادا حقيقيا لأيما تنمية اقتصادية في البلاد لذلك لم يكن هناك بدُّ-كما قال- من جلب أعراق أخرى لكي تنهض بالبلد وأهله وتنصهر فيهم مستقبلا فتضخ العافية الى شرايين الحراك الحياتي في الدولة…
وماليزيا هذه بلد سياحي من الطراز الفريد…
ولكم دُهشت وأنا أزور الملاهي المائية البديعة في مدينة ألعاب صنواي لاجون الضخمة…
أما مرتفعات كاميرون هايلاند التي تُزرع فيها الفراولة فهي لعمري تجسد أجمل ما على الأرض من جمال…
تقف على تلة وتنظر الى الأرض من تحتك فتجدها منبسطة بالخضرة الموشاة بحبات الفراولة الفاقعة الحمرة وكأنها (أزرار) تجمل ثوب فتاة…
ومن دون ذلك شلالات روبنسون وشلال اسكندر وشلال باريت الأخّاذة تَهَب المشهد ذَوبا من ألق فتحار أأنت في الدنيا أم قد انتقلت الى جنة الفردوس!…
(لعلي أواصل ان شاء الله)

[email protected]

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٩)

إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٨)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!