مقالات
تريند

عادل عسوم يكتب: من قال إن الأحرف تهوى السكون؟!

سوداني نت:

إنها لعمري للمد -فتحا وكسرا وضمّا- أهوى منها الى السكون، فمن قال (سكّن تسلم)، لا أخاله الاّ سالكا إلى سلامة -يراها- كوّة ضيقة!

فلماذا نلوذ بالكوى والأبواب مشرعة دونما مواربة؟!…

فالفتحة تتمخض عن ألف…

والكسرة تلد ياء ما أجملها…

والضمة مشروع قاصد لواو…

فمن قال ان الأحرف تهوى السكون؟!

كم أتوقف بين يدي احتفاء الله جل في علاه بال(قلم)!

لقد ابتدر بذكره تنزيل القرآن الكريم، وأنزله على من؟! إنه على نبي أُمّي وأمّة أميّة!!

فلماذا ياترى كان الإبتدار بالقلم؟!…

لنجوس يااحباب في بلاد الله، ولنسبر أغوار الشعوب، سنجد بلا جدال أن الفقر والمرض دوما يقترنان بالجهل، بل يكون الجهل أسبق منهما.

إنه الجهل بالحروف التي تشكل المعبر الحقيقي إلى العلم والمعرفة، أليس في ذلك شاهد وتكريم لهذا القلم دون غيره من الأدوات التي شرع الإنسان في استعمالها خلال حراكه الحياتي منذ وجوده؟!

فالسيف والحربة والسهم والشراك والشباك كلها ادوات تسهم في جلب طعام يأمن الانسان به من جوع، وهل يعيش الانسان دونما طعام؟!

فلماذا كان الاحتفاء بالقلم دون غيره من الأدوات؟!

ماهو إلا أداة تفرخ الحروف، ولكن ماذا تفعل الحروف؟!…

بالحروف يتعلم الانسان مالم يعلم (بنص آية العلق الكريمة)!

وما لم يعلم هذه عوالم وفضاءات رحييييييييييبة يااحباب، إنها عوالم يضج بها حراك الحياة، فهل يعقل أن يقول قائل بأن الأحرف تهوى السكون؟!

لقد قُدّر لي بأن أكون في دولة تشيكوسلوفاكيا خلال الأحداث التي أدت الى انفصال الدولة الى التشيك وسلوفاكيا، فخرجت إلى الطريق العام لأجد الناس يتحلّقون حول أحد المتحدثين المعروفين بالدعوة إلى الإنفصال، الرجل عمره تعدى السبعين، وهو كاتب وروائي معروف بدعوته إلى انفصال سلوفاكيا، وقد قال يومها مقولة لم يزل صوته الأجش يتردد بها في أذني حين قال:

(اللغة هي أهم عنصر لتكوين القومية والدولة، وليس العرق أو الدين)!!!

لم أستطع قبول ذلك في البدئ!

فالذي كان مستقرا في حسباني حينها أن العِرق أو الدين -نوعا ما- هو العنصر الأهم في تكوين القومية أو الدولة…

ولكني بدأت في سبر حال كل بؤر الدعوة الى انفصال في فجاج الأرض، فماذا وجدت؟!

برغم أن العرق هو الذي يبين على السطح، الاّ أن اللغة تبقى العنصر الحاسم إمّا لتغذية أوار ذاك الانفصال أو اخماد ناره…

وقد فسر لي ذلك الجهد الكبير الذي مارسته قوميات لطمس لغات اثنيات أخرى دون التعويل كثيرا على محاربة الدين والثقافة!

فمن قال ان الأحرف تهوى السكون؟!

وتبقى اللغة بوتقة تنصهر فيها أعراق…

وأديان…

وثقافات…

وتبقى كذلك الحاضنة لكل بذور الحراك المجتمعي نحو الغايات والمآلات القاصدة، فكم من دولٍ أضحت اللغة فيها وعاء جمع الوجوه على إختلاف سحناتها وألوانها وما استصحبته من أديان وثقافات، فأضحى ولاؤهم لعلم واحد يرفرف فوق السارية…

هذه أمريكا بكل عنفوانها قد هضمت الأعراق على كثرتها، وإذ هي برغم وشائج الأرتباط بالأصول تجد الفرد منهم ينتصب ويقول في عزة وشموخ (Iam  american)!

وتلك البرازيل لا تكاد تجد فردا يشبه الآخر في تقاطيعه، وبالتالي في مصروره الأصل، الاّ أنهم انصهروا في بوتقة اللغة والحدود الجغرافية، فخرجوا على الناس بالسامبا، وخرج غيرهم بالفلامنجو، وتراضى الناس ببعضهم تحت مظلة اللغة، فاضحى اللبناني الأصل رئيسا في دولة، وغير ذلك كثير!…

وفي الجانب الآخر كم من بؤر انفصال أو انكفاء في خارطة دول كانت، ولم تفتأ اللغة سببا أساسا للتفكير في الخروج عن سلطان الدولة.

فذاك اقليم الباسك في أسبانيا وفي فرنسا، قد جمعت بينهم لغة الباسك وهم قوميات عديدة.

وأقليم كويبك في كندا الذي يتحدث مواطنوه الفرنسية دونما توحّد تحت أصل واحد.

وهناك ما يصطلح على تسميته بعرقية التاميل في سريلانكا وهم شعوب من أصول عديدة جمعت بينهم اللغة التاميلية!…

وهناك أيضا أقليم كيرلا في الهند والذي يتحدث أغلب سكانه لغة الماليالم، وهم فسيفساء لقبائل أكثر من مائة عرقية يعتنقون جل أديان العالم، زرت هذا الاقليم ونزلت في منطقة تسمى (ترافاندروم)- الفاء تنطق معطشة- وقد لفت نظري مدى الترابط الأجتماعي الذي اضفته اللغة الواحدة على الناس حيث تتداخل الأسر المسلمة والمسيحية والهندوسية فيما بينها بمودة ومحبة بائنة دون غيرها من الأقاليم الهندية!

وأعود للراحل حاج الماحي وأولاده، كم لهذا الرجل من أفضال على أهلنا في الشمال يااحباب!

سألت جدتي ايام طفولتي وهي تتدارس-وهي الأمية- كل مشاعر الحج مع قريب لي، فتسبقه بذكر الأمكنة والنُسُك في سوح الحج في عرفات ومنى ومكة المكرمة!

-حبوبتي أنتي الورّاك حاجات الحج دي كللللها منو؟!

-أي نان مديح ولاد حاج الماحي دا أنتا قايلو كلام وبس!…

وكذاك صفات الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتفاصيل الشعائر، وقيم الأخلاق، ومناطات الخير والشر وغير ذلك كثير، وإني لموقن بأننا إن استثنينا (مدحة التمساح) فلن نجد شيئا يذكر من مديحهم يتعارض مع أسس العقيدة ومسلمات الدين، اللهم ارحمه ومن مضى من ذريته واجعل الأحرف دوما تنأى عن السكون.

لقد ربطت بيني وبين ابن (السنيقال) عبدالمجيد تيون وشائج صداقة حميمة، كان يدرس اللغة العربية في المعهد الخاص بالناطقين بغيرها داخل حرم جامعة أم القرى التي كنت أدرس فيها بكلية العلوم التطبيقية والهندسية حينها، وأعتاد مجيد وفي معيته سنيقاليون آخرون التواجد دوما خلال لقاءاتنا السودانية، وجبتهم الرئيسة أضحت (صحن أم رقيقة بكسرة)، ورمضانهم استحال سودانيا معتقا بروائح الآبري الأحمر…

كانوا جميعا ممشوقي القوام وأنيقي قسمات الوجه بلا دشانة ولا قبح، وبالطبع كانت لغتهم الاساس لغة مستعمرهم السابق الفرنسي…

عبدالمجيد تخرّج في معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، ثم استوعبته الجامعة في كلية اللغة العربية، وتخرج فيها لاحقا، وتخرجت كذلك في كليتي، وافترقنا باجسادنا لكننا ظللنا متواصلين بريدا ومهاتفة…

وخلال بداية التسعينات ابتعثتني الشركة التي أعمل بها -في المملكة العربية السعودية- إلى مدينة نيس الفرنسية، فأخبرت صديقي عبدالمجيد الذي يشغل منذ يومها وظيفة مرموقة في وزارة التعليم العالي السنيقالية، وتحت إلحاح الرجل عدلت من خط رحلة سفري لأزوره في مدينة داكار، فالتقاني وفي معيته زوجه سليمة وبنتاه عائشة وسارة وابنه (عادل)!

بادرني عادل ذي الست أعوام قائلا:

-السلام عليك ياعمي عادل الذي أسماني والدي على أسمه، فرددت عليه السلام، وحملته وقبلته وقد غال عيني الدمع، ثم طوّف بي صديقي مجيد خلال طرقات العاصمة على متن عربته البيجو 405 فرأيت شعبا يتميز بقوام ممشوق ووجوه أنيقة التقاطيع، وزرت جامعة داكار والعديد من المدارس والمعاهد، فتلمست جليا جهودا كبيرة لنشر اللغة العربية هناك…

قال لي مجيد:

باذن الله ياصديقي عادل ستكون السنيقال دولة ناطقة باللغة العربية بدلا عن الفرنسية خلال عقدين من الزمان لا أكثر، فدهشت بذلك كثيرا، وقد استمعت بعد ذلك إلى خبر في ثنايا نشرة أخبار التاسعة على قناة الجزيرة مفاده بأن السنقال تزمع تدريس المنهج الإسلامي العربي في كل المدارس الإبتدائية على نطاق الدولة، وذلك بعد أن تبين وزارة التعليم خلو المدارس النظامية من التلاميذ الذين اعتادوا الإلتحاق بالمدارس العربية الخاصة المنتشرة في عاصمة الدولة ومدنها الرئيسة، وعندما هاتفت صديقي مجيد انبأني بان الحكومة قد خلصت لتوها من دراسة ميدانية أنبأتهم بانحسار مد اللغة الفرنسية أمام العربية في السنيقال بنسبة 1/26!!!

رحم الله والدي فقد كان يقيّم من يلتقيه بسلامة لغته، فإن سلمت لغة المتحدث أتلمس بشرا وبشاشة في وجهه وحرصا منه على سماع له وتفاعل.، ومن شابه أباه فما ظلم، فقد اعتدت التنقل بين قنوات التلفاز لأركن إلى من تتلقى أذني لغته بقبول، فاللغة (جسر) تعبر عليه الأفكار والمشاعر والمرادات،

فكلنا نعبر جسورا خلال حراك حياتنا، بعضها قد نصب على مجاري أمطار فلاتملك الاّ أن توازن ثقلك بيديك حتى تعبرها، وبعضها قد أجيد تعبيده وأوسعت حوافه لتعطيك أمانا واطمئنانا وأنت تجتازها، وكذلك التي نصبت على شرايين أمواه نيلنا الخالد، وجسر قديم كم تضج مشاعري فوقه، ودون ذلك زمجرة إطارات السيارات على حديده، وإذا به قد جلبه الإنجليز من الهند بعيد انتهاء عمره الإفتراضي لينصب لدينا!

وإذا بجسر توتي يتمدد على معصم نيلنا البض، كسوار من ذهب، وتتلوه جسور أخرى عديدة، تسير عليهن بثبات فلا تملك الاّ أن تملأ رئتيك بكامل ال21% من الأوكسجين المتاحة في أرض تتسمّى بالسودان، وطن كم غمطه الآخرون، وسرقوه مقدّرات وتأريخا، فكأنني أتسمّع لبلاغة الدكتور عصام أحمد البشير أو لكأنني أهفو إلى أشعار روضة الحاج البديعة!

ذات الحروف ولجت إلى سوح أهلنا (الأقباط) في مصر في معية الصحابي الجليل عمرو بن العاص، فلم تركن الى سكون، بل طال حراكها لغة القوم، فاختارتها الألسنة لغة لهم، برغم بقائهم على دينهم!

أي فوت فوق ذاك ياأحباب؟!

وأولئك أهلنا الجزائريون، جثمت على صدورهم اللغة الفرنسية مئة سنين وازدادوا تسعا، وعندما خرج الفرنسيون، بقي اللسان منهم متفرنسا أعواما، لكنها -أي ذات الأحرف-

لم تهو سكونا، بل انداحت حراكا في الناس فأضحت الألسنة ترتقي كل يوم الى سوح العروبة وفضاءاتها، عروبة تكنس في طريقها كل مظاهر الفرنسة أحرفا وأخلاقا.

لقد قدّر لي بأن أعيش بعضا من طفولتي في دولة جنوب السودان قبل الانفصال، أتقنت خلالها (عربي جوبا)، ثم عدت خلال الثمانينات، فإذا بي أجد تلك اللهجة ترتقي إلى ميس الفصاحة عاما بعد عام برغم الإنفصال، وذاك لعمري هو طبع العربية إذ تيمم اللهجات اضطرادا إلى فصاحة محروسة بكتاب الله، والذي كتب له الله الحفظ إلى أن يرث الارض ومن عليها.

أما حال الانجليزية فهو بغير ذلك

هاهي تفترق الى انجليزيتين!

انجليزية في أمريكا وأخرى لدى أهلها في انجلترا…

ويذهب البعض الى أنهما سيصبحان يوما لغتين مختلفتين عن بعضهما.

وتبقى الأحرف (العربية) لا تهوى السكون!

[email protected]

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٩)

إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٨)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!