مقالات
تريند

عادل عسوم يكتب: خواطر رمضانية (الخاطرة الثالثة عشر) “سياحة في سورة يوسف، عليه السلام” 30/13

سوداني نت:

ما أجمل وأمتع هذه السورة يا أحباب، إنها حقا (أحسن القصص) كما قال ربنا في ابتدارها، إنها لقصة عظيمة فيها من الجذب والتشويق الشئ العجيب!

المحور الأساس للقصة: (الثِقة في تدبير الله، والصبر وعدم اليأَس من رَوح اللّه)، وهي تبدأ بحلم، وتنتهي بتفسير هذا الحلم!!!

وكل ذلك يُسرد بترابط منطقي يجعل القارئ يتتبع التدرج الزماني والانتقالات المكانية وما يكتنف ذلك من رموز بانتباه وتركيز شديد، كي لا يفوته وصف أو أو موقف من مواقفها!

لعمري إنها من أحب سور القرآن إلى نفسي، فكم في ثنايا هذه القصة النبوية الكريمة الكثير من مشاهد الإعتبار والإلهام، والقرآن بالطبع ليس مجرد قصص أو سرد وتوثيق تاريخي، إنما محتوى يخاطب العقل والروح ليرقي بالنفس البشرية إلى كمال بشري يستحيل أن يوجد في سواه!

السورة توثق لنبي كريم…

إنه يوسف، إبن يعقوب، إبن إسحق، بن إبراهيم عليهم جميعا السلام.

إنه النبي، إبن النبي، إبن النبي، إبن النبي.

وهي السورة الوحيدة في القرآن التي خصصت بكاملها لسرد قصة نبي!

إنها مكية بالإجماع إلا ثلاث من آياتها، وعدد آياتها 111 آية، وترتيبها في القران الكريم السورة ال12.

لقد ورد ذكر يوسف ـ من مجموع (27) مرّة في القرآن ـ (25) مرّة في هذه السورة، ومرّة واحدة في سورة غافر الآية (34)، ـ ومرّة أُخرى في سورة الأنعام الآية (84).

وقصّة نبي الله يوسف عليه السلام كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإِسلام، فقد ذُكِرت في 14 فصلا من سفر التكوين من التوراة وبالتحديد بين الفصل 37 ـ 50 بصورة مفصلة.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف بعض الإِختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن، ونصّ القصّة في القرآن يبدو في غاية الصدق، ويخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

{وإِن كنت من قبله لمن الغافلين}، يشير الى قصّة يوسف التي عبّر عنها بأحسنِ القصص، حيث لم يكن النّبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

ويظهر من التوراة أنّ يعقوب عليه السلام لما رأى قميص يوسف ملطخاً بالدم قال:

هذا قميص ولدي وقد أكله الحيوان المفترس، فيوسف مّمزق الأحشاء، ثمّ خرّق يعقوب ثوبه، وشدّ الحزام على ظهره وجلَسَ أيّاماً للبكاء والنواح على يوسف، وقد عزّاه جميع أبنائه ذكوراً وإِناثاً، إِلاّ إنه امتنع عن قبول تعزيتهم وقال: سأُدفن في القبر حزناً على ولدي.

بيد أنّ القرآن يبيّن انّ يعقوب لم يصدّق ما قاله أولاده، ولم يفزع ولم يجزع لمصيبة ولده يوسف، بل أدّى ما عليه من سنّة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله، وقال لأبنائه: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون}، وإِن كان قلبه يحترق على فراق ولده، وعيناه تدمعان من أجله حتى ابيضتا وعميتا، لكن ـ وكما يعبر القرآن ـ لم يقم يعقوب عليه السلام بأي عمل من قبيل تخريق الثوب، والنواح وشدّ الحزام على ظهره كما جاء في التوراة – المحرفة-، إِنّما قال: {صبر جميل} وكتم حزنه {فهو كظيم}.

سورة يوسف نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عام الحزن، وهو العام الذي توفي فيه عم نبينا صلى الله عليه وسلم أبو طالب، وهو من كان يدفع عنه أذى قريش، وتوفيت فيه كذلك السيدة خديجة رضي الله عنها بعد خروج المسلمين من شعب أبي طالب بأشهر، وقد كان لهذه المصيبة وقعه الأليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ خديجة رضي الله عنها كانت سنده الوجداني والقلبيّ، إضافة إلى ما قدمته له من دعم ماليٍّ، وقد توفيت رضي الله عنها بعد وفاة أبو طالب، ولم تكن زوجته وأم أولاده فحسب، بل كانت المرأة الصالحة ووزيره الصادق ومستشاره الأمين، وكانت صاحبة رأي حكيم، حيث عاشت مع الرسول عليه الصلاة والسلام لحظات الخوف والقلق والترقب، ودعمته بكل ما تستطيع، وقد زاد من حزن النبي عليه الصلاة والسلام لكون عمّه مات كافرًا، وقد كانت وفاتهما بعد أن نُقضت صحيفة المقاطعة، وهو ما يقارب العام العاشر للبعثة والثالث قبل الهجرة.

وصف نبينا محمد صلى وسلم يوسف عليه السلام فقال: (أوتي يوسف شطر الحسن).

فقد ورد في صحيح مسلم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله (أوتي يوسف شطر الحسن)، ومعنى شطر : نصف، وقد اختلف في تأويل ذلك، فقيل أوتي شطر حسن النبي، وقيل: أوتي شطر الحُسن، ولا يدخل في القسمة النبي لأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه على قول.

وقال ابن كثير: أوتي شطر حسن آدم عليه السلام، فالله خلق آدم عليه السلام على أحسن صورة.

وقيل: أوتي يوسف الصديق شطر الحسن مطلقاً.

هذه السورة بفعل تقشعر له الأبدان ويذهل العقول لسوئه، فقد رماه أخوته في غيابت الجُبّ وهو اليافع!

ولان قال الشاعر طرفة بن العبد:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند!، مابالكم عندما يكون ذوو القربى هؤلاء اخوة؟!!!

وما أدراكم بوقع الظلم على يافع لم يبلغ الحلم بعد؟!

ويبدو لي بأن يوسف كان يتيما، إذ لم يأتي ذكر أم يوسف طوال هذه السورة إلا مرتين، في قوله ورفع (أبويه) علي العرش وفي سجودها له في الرؤيا، ومعلوم بالضرورة أن حزن الأم أشد وأعمق من حزن الأب، وق بلغ الحزن بيعقوب عليه السلام حد فقد البصر!

فعلها توفاها الله وهي تلد أخوه الأصغر بنيامين، ويدل لفظ أبويه في الآية (ورفع أبويه علي العرش) بكون من كانت مع يعقوب عليه السلام إحدى زوجاته، وإلا لقال ورفع والديه علي العرش، والله أعلم.

لنعيش مع الصبي يوسف وهو في البئر:

انقبض قلب الصبي وهو لايكاد يصدق بأن أخوته -الذين يكبرونه- يدفعون به الى غيابت جُبِّ مظلم وموحش!!

يالقساوة قلوب الإخوة!…

لعلي به قالها لنفسه وهو اليافع عُمرا، لكنه الكبير بعقله وإيمانه وايجاب وجدانه!

وكأني به يرفع كفيه الصغيرتين وهو لايكاد يرى شيئا مما حوله ويقول:

اللهم إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا ابالي.

إنه دعاء الأنبياء طُرّا!

وهاهو يجلس القرفصاء يدعو ربه ويلح عليه جل في علاه بأن يحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه، ويعوذ بالله أن يغتال من تحته، فهو إن لم يأمن سباع الصحراء؛ فلن يأمن هوامها وعقاربها وثعابينها وهو ملقى داخل جُبّ لايستطيع منه خروجا وخلاصا!

وانطلقت -دون ارادة منه-آهة حرّى لانشغال فؤاده بوالده الذي يعلم قدر حبه له ولشقيقه الأصغر بنيامين بعد وفاة امهما راحيل…

فهو يعلم رقّة قلب أبيه يعقوب، وعظم حبه له ولشقيقه، فانسابت دموعه بغزارة، ما كان حزنه على نفسه إنما كان على أبيه وشقيقه، وكأني به يتوجّه بوجهه وقلبه إلى الله ويدعوه:

اللهم أنت ربي ورب السموات والأراضين وقيومهما، يارحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يامن أنجيت جدي ابراهيم من النار، أسألك يا أحد ياصمد أن تحفظ أبي وأخي من كيد إخوتي يا أرحم الراحمين.

وما فتئ يدعو لهما إلى أن غلبه النوم فرقد، أسبل الصبي أجفانا على عينين هدهما التعب وقد أثرت فيهما الدموع، إنها دموع الشفقة على أبيه وشقيقه من كيد أخوة له قساة القلوب!…

فامتدت اليه يد العناية الإلهية تربت عليه لينام بقية ذاك المساء بليله الطويل…

وإذا بالملائكة تحوّم من فوقه، وإذا برائحة العطور تعبق في أجواء الجُب، وإذا بجبريل عليه السلام يناديه يا يوسف:

{لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}!.

وإذا بالنداء يتردد لمرات، فاستوى جالسا، وإذا بأصوات تأتيه من فتحة الجب، وهنا يصف لنا ربنا ما حدث:

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.

إنها أقدارك يارحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، فما كان لتلك القافلة أن تمر على المكان، وما كان لهم أن يكونوا في الصبي من الزاهدين فيشروه بثمن بخس دراهم معدودة؛ الاّ برحمتك ياأرحم الراحمين!

ويقدّر الله للصبي أن يخرج من حفرة موحشة مظلمة في الصحراء ليدخل إلى أحد أرفع بيوت مصر!

وما ان يبلغ أشده هناك، إلا به يتعرض لفتنة عظيمة إذ تُفتَتَن به امرأة العزيز الذي اشتراه!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}.

لقد قرأت جل التفاسير والخواطر التي كُتِبَت حول قصة مراودة امرأة العزيز له عليه السلام فوجدتها كلها تتحدث عن مشهد واحد، لكن تبين لي وجود مشهدين مختلفين (في الدرجة والوصف) ، كلاهما حدثا ليوسف عليه السلام، فلم يكن أمر المراودة مشهد واحد:

* المشهد الأول:

هو ما تحكيه الآية ال23 من سورة يوسف عليه السلام؛ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.

هنا حدثت مراودة من زوجة العزيز ليوسف عليه السلام، ويظهر أنهما قد كانا لوحديهما في القصر، وقد سعت الغاوية إلى غلق الأبواب، ولعلها سعت إلى اغرائه بما جُبِلَت المرأة عليه من قدرات تثير أيما رجل (مكتمل الرجولة)، ويوسف عليه السلام كان في ريعان شبابه، مكتمل الرجولة لا ينقصه منها شئ، وهي زوجة أمير، بل إنه نائب الملك ويسمى العزيز، وقد كانت في غاية الجمال، وقد ورد في بعض الآثار أنها إبنة الملك.

قالت له (هيت لك)، أي تهيأت لك، لكن يوسف استطاع أن يكبح جماح نفسه وينتصر على هواه ويستعصم.

وهنا إنتهى المشهد الأول.

* المشهد الثاني:

إنه ماتحكيه الآية الثانية التي تليها، وأحسب أن المشهد الثاني حدث بعد أن شاع خبر مراودتها له في المدينة فدعت النسوة، ثم أعطت كل واحدة منهن سكينا وقالت أخرج عليهن، فقطعن أيديهم دهشة منهن وانبهارا بجمال خلقة يوسف ووسامته، وما إن رأت امرأة العزيز أثر جماله عليهن:

{قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.

وإذا بها تزداد إصرارا كي تنال منه مبتغاها، وإذا بمراودتها له تتعدى مرحلة الإيحاء والتهيئ له إلى مرحلة (الأمر) أو السجن إن لم يفعل، كيف لا وهو الخادم في بيتها، وهي الأميرة الآمرة الناهية في قصرها، وهو قد شغفها حبا، وقد (همّت به)، وإذا به هو أيضا (يهمّ بها)، والهم هنا أراه إلا الهم (الطبيعي) من الرجل بالمرأة لا الضرب كما تقول بعض التفاسير، وعندما استقوت عليه وأوشك أن يطاله الضعف البشري فيصبُ إليها؛ جعل يدعو الله بأن يعصمه وينجيه فقال:

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}، فإذا به يرى برهان ربه:

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

وينتهي المشهد بقصة (قميصه) الذي كان دليلا على براءته عندما تبين بأنه قُدَّ من دُبُر كما أفاد الحَكَم، وقد ذكرت القصة قميص يوسف من قبل دليلا على خيانة إخوته، ثم استخدم للبشارة ليعيد به الله بصر يعقوب عليه السلام!

ولنقف برهة بين يدي تصرف (العزيز)/ زوج زليخة العجيب والأقرب إلى (الدياثة)!:

تقول الآيات الكريمات:

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.

بدأت اسائل نفسي كيف ل(زوج) أن يكون بهذه الدياثة وهو يرى زوجه تفعل الذي فعلته؟!

فيممت إلى قصص الأنبياء لابن كثير فوجدت الإجابة:

زليخا هي إبنة ملك مصر، والعزيز -وهو الوزير عند الملك- وجد نفسه من الجبن بمكان أن يعيب عليها تصرفها المشين بالرغم من تبينه لخطئها، وإذا بي -أيضا- أجد شيئا آخر أورده إبن كثير نقلا عن التوراة؛ لقد كان زوج زليخا عِنّيْنَاً!، وورد بأن يوسف عليه السلام عندما تولى الوزارة – بطلب من الملك- تزوج من زليخا فوجدها عذراء! وورد أيضا بأن الله قد رد إليها شبابها بعد إيمانها بنبوة يوسف وأصبحت له زوجا.

ويحسن بي ان أقف وقفة أخرى بين يدي مقولة يحسب الكثير من المسلمين بأنها حقيقة وردت في القرآن، وهي مقولة وردت في ثنايا هذه الآية الكريمة:

{فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.

لقد اعتاد البعض منا ظلم النساء بالقول لهن (إن كيدكن عظيم) افتئاتا وظنا منا بأنه وصفٌ لهن من الله بحسبانه قد ورد في القرآن الكريم،والحقيقة تفيد بأن الوصف لم يكن سوى مقولة من العزيز زوج زليخا (وهو الكافر)، وهو الديوث عديم الغيرة على زوجه، وبالتالي لايصح إتهام النساء بأن كيدهن عظيم، وهذه براءة مني للنساء من عٍظَمِ الكيد 🙂

ويتواصل الابتلاء بنبي الله يوسف:

{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.

ويدخل يوسف الى السجن بلا ذنب جناه!…

والسجن -دوما- ظاهره نقمة ولكن قد يقدّر الله فيه للمؤمن خيرا كثيرا!…

لم ينكفئ الشاب يوسف على نفسه ويندب حظه ومصيره إنما بقي يدعو الله، وكذلك يدعو من حوله إلى الإيمان بالتوحيد، فعندما استفتاه رفيقاه في السجن عن رؤاهما؛ لم يجبهما الاّ بعد أن حدثهما عن دينه ودعاهما إلى توحيد الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 36

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 37

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} 38

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 39

{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}40

لعمري إنه الهمُّ بالدعوة إلى الله يعتلج دوما في صدور الأنبياء والرسل والصالحين، فالهمٌّ بذلك لايفارق الأطهار الخُلَّص وإن كانوا في غياهب السجون،وكأن لسان حالهم يقول:

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي غمائم ليس تنتظم البلاد.

وكأنّي بصوت يوسف الحزين يتردد في أذنيّ وهو يقول لرفيقيه:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}؟ُ …

إنه التوحيد عندما يخامر شغاف القلب، وعندما تري البصيرة بعين المحبة والإخبات إلى الله ياأحباب، لعمري إنه التصالح الحق مع النفس،

إنه التوحيد الذي يجعل النفس توقن يقينا -لايخالطه شك- بأن النافع والضار هو الله، فلا يبق للنفس الاّ الاستيثاق بأنه لو اجتمعت الخلائق على أن ينفعوها أو يضروها، لما أتوا الاّ بشئ قد كتبه الله، وذاك لعمري هو تمام الإيمان.

ثم يشرع يوسف عليه السلام في تفسير رؤيا صاحبيه في السجن فيقول:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.

ثم يردف يوسف -بلهجة الواثق- إلى الذي سينجو منهما:

-لاتنس بأن تذكرني عند الملك يارفيق السجن.

ويصدُق يوسف فيصلب أحدهما ويشمل الآخر عفو الملك ليعمل عنده ساقيا للخمر، لكنه ينسى طلب يوسف منه، فيبقى في السجن سنوات أخرى.

ويظل يوسف عليه السلام يدعو الله بتفريج كربته وخروجه من السجن،  فتكون إجابة الله آخر مايمكن أن يتصوره عقل بشري!

لم يرسل الله صاعقة تخلع باب السجن، ولم يأمر نهر النيل بالفيضان فجأة ليهدم أسوار السجن، بل أرسل رؤيا (متكررة) تتسلل في هدوء الليل إلى رأس الملك وهو نائم!

ثم يجعلها خفية على كل المفسرين، تماما كما حرّم المراضع – في بيت فرعون- على نبي آخر هو الرضيع موسى عليه السلام!

لنستمع لقرآننا يحكي المشهد:

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}

{قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.

ويأتي ساقي الملك مسرعا إلى يوسف مستفسرا عن رؤيا الملك:

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.

فلم يكتم يوسف علما علمه الله، ولم يستعلي بعلمه ويرفض الإجابة بالرغم من الظلم الذي تعرض له ودخل بسببه  السجن، إنما قال:

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ}

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ}

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.

ويعجب الملك بتفسير يوسف، ثم يخبره الساقي بتفسير سابق من يوسف لرؤيا رأياها هو ورفيقه الذي حكم عليه بالقتل والصلب صدق فيهما يوسف!

فما كان من الملك الاّ أن أمر بأن يؤتى إليه بيوسف، لكنه رفض الحضور مشترطا بأن يعيد الملك النظر في مظلمته.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.

ويتولى الملك بنفسه أمر التحقيق:

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.

{وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

فيتنفس يوسف الصعداء، إذ ما كان له وهو الوضئ أن يبقى أمدا طويلا موصوما بسوء ليس فيه، فيخرج مرفوع الرأس…

ويوثق القرآن الكريم كل ذلك ويبقى يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…

ويتبدل الحال بيوسف من السجن إلى التمكين والتوزير في القصر الملكي.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}.

{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}.

وهنا وقفة:

بالرغم من كفر الملك وكفر الدولة فإن إيمان يوسف عليه السلام بالله ودينه لم يمنعانه من المشاركة في الحكم، وذلك ليقينه بأنه الأقدر على إدارة شؤن الاقتصاد والمال في تلك الدولة رحمة بالناس.

ولكأني بيوسف عليه السلام يأخذ مجلسه أول يوم على كرسي الوزارة، فيتذكر ماكان عليه من حال، وما آل اليه من مآل، فيشخص ببصره إلى السماء ويقول مناجيا ربه:

اللهم ياأحد، يافرد، وياصمد، يامن لم تلد، ولم تولد، يامن ترى وترزق النملة السوداء في الليل البهيم، ويافالق الاصباح والنور، يامخرج الحيّ من الميت، لك الحمد ياربي حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، أن حفظتني -وأنا اليافع- في الجب، وكتبت لي خلاصا منه ومن إخوتي، وأوصلتني معافاً الى قصر عزيز مصر، وأخرجتني من السجن، وأمهلت ولم تهمل، فانصفتني ورددت لي اعتباري، ثم جعلتني على خزائن مصر أأمر وأنهي وأكيل لمن أشاء.

يارب، أحمدك حمدا يجازي نعمك عليّ، يارزاق ياذو القوة المتين، أثني عليك الخير كله ياخير من سُئل، وأسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت أن تحفظ لي أبي وأخي وتجمعني بهم على خير.

لكأني به عليه السلام قال ذلك فدمعت عيناه وقد طاف به خيال أبيه، ثم أخلد الى هدأة ليصبح عليه صباح جديد.

وتمر الأيام والأشهر والسنون، وكأني بأخوة يوسف يأتونه يصطفون أمامه يرجون كيلا يعتاشون منه وهم له منكرون، لكنه عرفهم فردا فردا!

ذاك اخي الأكبر (روبيل)، وذاك الذي يليه (شمعون)، وذاك الذي اقترح عليهم بأن يلقوه في غيابت الجب (لاوي)، وكذلك (يهوذا) و(زيالون) و(يشجر)، و(دان) و(نفتالي) و(جاد) و(أشر).

لنعيش مع الآيات الكريمات وهي تحكي لنا عن أخوة يوسف:

{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}.

{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ.

فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ}.

{قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}.

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}.

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.

{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}.

{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ}.

{قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}.

{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}.

{قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ}.

{قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.

{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}.

{قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

{قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ}.

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.

{ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}.

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}.

{قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}.

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}.

{قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}.

{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين}.

وهنااااك في الجانب الآخر كان وجدان الأب النبي يعقوب يستروح رَوح الله وفيوض أنواره، وهو الذي قال من قبل والثقة بالله تملأه:

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

لعمري إنها آية تُفضي الى سوح وفضاءات رحيييييبة…

وينطلق أخوةُ يوسف بقميصه ميممين صوب أبيهم هنااااك في البادية.

وهنا، ينعكس نور الوضاءة والطهر على وجه النبي يعقوب، لكأنه البرق يسبق السُحُب الهطال، كيف لا ووضاءة النبوة من هنا وهناك تملأ الآفاق؟!!!

لندع الآيات الكريمات تكمل لنا التوصيف:

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}

{قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}.

انه احساس الأنبياء بالأنبياء، فما بالكم عندما تختلط النبوة ببنوة وأبوة!

ويصحو يعقوب النبي على نفح انسام تاتي من البعيييييد، انها ارتقاءات الأنفس الوضيئة يااحباب، إنها استعلاءات الأحاسيس الريانة بأطياف الصدق والخير والجمال!

إنها أنسام يوسف يامن حولي!

(هكذا قال النبي يعقوب لمن حوله)!…

بالله عليكم، أ للناس أنسامٌ تُشَمُّ مسرى أيام وأسابيع؟!

نعم ورب الكعبة، إنها أنسام الأنبياء، فكيف إن كانت لنبي ابن نبي إبن نبي والجد الأكبر نبي؟!

وتصل العير فيترجل الأخوة وبيدهم القميص المبارك:

{فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

فلا يملك يعقوب عليه السلام الاّ التشبث بقميص الحبيب يدس فيه أنفه ووجهه وعينيه، وتنهمر دموعه هطالة تبلل نسيج القميص، دموع تتخللها تأوهات شيخ طاعن هدّه الحنين إلى فلذة كبد هو أحب الناس اليه، فيجفف دموعه بأطراف القميص ثم يشخص بعينيه إلى أبنائه وإذا به يراهم من جديد فردا فردا!

ويخرُّ يعقوب ساجدا لله يتبعه بنوه، ويتعالى النحيب من خلفه.

إنه نحيب الخطيئة والظلم الذي اقترفه الإخوة من قبل.

فيتعالى صراخهم قائلين:

{قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}.

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وقفة:

يقال بأن الساعة التي عناها يعقوب كي يدعو الله (وهي ساعة إجابة)، هي السحر، وهو الثلث الاخير من الليل، وقيل أيضا بأنها الساعة الأخيرة من نهار الجمعة قبيل المغرب.

وتعود الأفراح تفرد أجنحتها على بيت النبي يعقوب عليه السلام، إنها افراح لم يشكك يعقوب يوما في قدومها إليه.

إنها الثقة بالله ياأحباب!

إنه الاخبات للذي كتب على نفسه الرحمة والقدرة والجلال.

وهو كذلك تمام الإيمان بقيوم السموات والأرض من نبي كريم.

اللهم رحماك رحماك يامن رددت بصر يعقوب من بعد عمى، أسألك بفضلك وكرمك أن ترحمني برحمتك، وتمتعني ببصري وقواتي أبدا ما أحييتني يارحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

وعليك سلام الله يايعقوب.

وعليك سلام الله يايوسف أيها الصدّيق.

وعليك الصلاة والسلام يانبيي وحبيبي وقدوتي محمد بن عبدالله.

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!