مقالات
تريند

عادل عسوم يكتب: خواطر رمضانية (الخاطرة الثالثة والعشرون) “ومارميت إذ رميت”30/23

سوداني نت:

يقول الله جل في علاه في سورة الأنفال:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال 17

أرجح الأقوال تفيد بأن الآية الكريمة لها وصل بمعركة بدر الكبرى، وقد أمر أمر الله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأخذ قبضة من التراب ويحثو بها وجوه جنود جيش مشركي قريش وقال شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلا وأصابته في عينه ومنخريه وفمه فكان لذلك دور كبير في النصر المبين للمسلمين وهزيمة جيش المشركين.

نعم إن الأمر كذلك، ولكن تبقى زوايا التدبر في آي القرآن من السعة بحيث تحتمل المقاصد الكامنة في عراجين ثمار الآية؛ عوالما من المعاني والمباني عديدة.

أجد هذه الآية (تجزم) للناس بأن حراكهم كله بيد الله، ولا يقتصر الأمر على التهيئة والتيسير فقط؛ إنما يتعداه إلى الفعل والكسب مهما بذل فيه المرء من جهد وعلم ومعرفة وتخطيط.

وهنا أقف وقفة بين يدي هذه الآيات الكريمات:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} الانفال65

{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الانفال 66.

الايتان تدلان على أن الأمر يرتهن ب(قوة) وضعف يعتريان المسلمين نتاج (قضية) بعينها، إنها عبادة الله.

فالإنس والجن لم يخلقهم الله إلا لعبادته جل في علاه، وكلما ازداد المسعي من العبد إلى العبادة والطاعة؛ ازداد عطاء الله ورضاه،

ولقد سبق في علم الله من يفعل ذلك ومن لن يفعل.

ذاك قارون قيل – فيما قيل- بأنه تعلم الكيمياء والفيزياء، واستطاع أن يحيل معادن الأرض ذهبا، وإذا بحجم ثروته يصفها الله ب{.. وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ…}!

فما كان من الشيطان إلا أن اغواه فقال عن ماله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، ولم يكذب قارون، فالرجل بذل في سبيل جمع ثروته مابذل، ولعل ذلك مما جعل عوام بني اسرائيل يقولون {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}، ولاغرو أن ذلك حال الناس على عمومهم في كل مكان وزمان:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران 14.

وكذلك هناك من اجتهد في تحصيل العلم والمعرفة، واقتطع من ماله وعمره وقواه الكثير إلى أن نال درجة الدكتوراة، فالشيطان يكون أحرص على غواية أهل العلم من الناس بأكثر من العوام، وماذاك إلا لكونهم أكثر قدرة على التأثير على مَنْ دونهم، وقصص القرآن والسنة تحتشد بالعديد من الشواهد في ذلك، ومنهم الذي وصل به الحال إلى معرفة إسم الله الأعظم، فأصبح مجاب الدعاء، مثل عالم بني إسرائيل (بلعام إبن باعوراء) الذي قص الله عنه لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال جل في علاه:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الأعراف 175.

لقد سبق في علم الله مايكون عليه حال بني آدم من قبل خلقه إياهم، ويعلم صلاحهم من فسادهم وطغيانهم:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  قال:‏ حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد‏)‏‏.

بل إن الله يسبق في علمه – حتي-الأمكنة التي تستحق الاهلاك والعذاب قبل أن يوجدها في الدنيا:

{وإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا} الإسراء

58

ولفهم ذلك يمكن للمسلم قراءة آيات سورة الكهف التي تحكي عن قصص نبي الله موسى عليه السلام الثلاث مع الخضر عليه السلام؛ من خرق للسفينة وقتل للغلام وبناء للحائط،

ولبيان الفرق بين القضاء والقدر أجد قول الشعرواي رحمه الله أفضل ماقيل لايضاح ذلك:

(قضى): يعني حكم حكماً لازماً لا يمكن أن ينتهي، وذلك في الأمور التي لا دخل للإنسان فيها، ولذلك فالله لا يحاسبك على القضاء.

ولكن (قدّر)، يعني أن الأمور تأتي في المستقبل من وجهة نظرك، فتقول: إنني قدرت أن أفعل كذا. وعندما يأتي وزير الزراعة مثلاً بناء على الإحصاءات والأرقام ويقول: تقدر الدولة محصول القطن هذا العام بكذا مليون قنطار. مع أن علم البشر ناقص، وتقديره حسب المعلومات التي وصلت إليه.

ولكن تقدير الله عز وجل لا يحدث فيه خلاف، لأن معلوماته مؤكدة. فإذا قدر على إنسان في الأزل أن يكون عاصياً، فمعنى ذلك أنه علم أزلاً أن هذا الإنسان سيختار المعصية. ولكن ساعة اختيار المعصية هل أرغمه الله عليها؟

الوزير حينما قدر المحصول، هل أرغم الأرض على أنها تنفذ تقديره؟ لا. بل هو قدر حسب المعلومات التي وصلت إليه والمسألة تسير في طريقها الطبيعي بدون تدخل منه.

كذلك خلق الله الخلق، وقال: هناك أمور قضيتها، وهذه لا أحاسب عليها أحداً، وهناك أمور تركت للعبد الاختيار فيها، ولكن قدرت أن العبد سوف يعمل كذا ساعة كذا، لا أقهره على أن يعمل، لأنه عمل بصفة الاختيار، ولكني أعلم ما سوف يعمل.

فالله قدّر، لأنه علم أنك ستختار، ولم يقدّر ليوجب عليك أن تصنع ما قدّر. وهذا هو الفرق بين القضاء والقدر.

ولنضرب لذلك مثلاً، فلو أن كلية الحقوق مثلاً حددت جائزة، فقال عميد الكلية لأستاذ المادة: إنه يريد امتيازاً في مادة كذا ليعطى جائزة قدرها كذا، فرشح الأستاذ أحد تلاميذه لأنه يعرفه، فلم يثق العميد في كلامه وعقد اختباراً فجاءت النتيجة حسب ما قدّر الأستاذ، فهل كان الأستاذ على يد الطالب ساعة أن كتب الإجابة؟

كلا، ولكنه حكم لعلمه بامتياز هذا الطالب بالذات، ولكنه علمٌ قد يختل لأنه علم بشر، ولكن علم الله لا يختل أبداً.

انتهى كلام الشعراوي.

وبالتالي فإن كل حراك حياتنا بيد الله، وإن نجح المرء منا فنجاحه بقدر الله وتوفيقه، فهو جل في علاه الميسر والمعين إلى السعي إلى النجاح، وكذلك الضامن والمحقق لثمرته، فمن تملكه أيما احساس بأن نجاحه كان بجهده وذكائه وتخطيطه؛ فقد أخطأ، ودوننا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم الصحيح: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها:

(ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أو تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)

والشاهد في ختام الحديث.

وكذلك في دعاء القنوت يأمرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول (اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعالى).

قيل إن اللَّه جل في علاه إذا تولّى العبد؛ فلا يذلّ ولا يلحقه هوان في الدنيا ولا في الآخرة.

لكنه إن سمح للشيطان بأن يزين له نجاحات، وبكونها نتاج جهده الشخصي وذكائه وتخطيطه، فإن ذلك يودي بالمرء إلى عوالم الاستدراج والهلاك وما أسوأ مآلاتها!.

اللهم لارمي إلا رميك، ولا مشيئة إلا رهن مشيئتك، بيدك الأمر من قبل ومن بعد، فاجعلنا لك من المُخْبِتين، واكتب لنا رضاك وحبك ما أحييتنا أوكتبت لنا الموت، إنك الله والرب لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمدا نبيك ورسولك، آمنا بقضائك وقدرك، بيدك وحدك علم الغيب فاقسم لنا منه ما يرضينا في دنيانا والآخرة، إنك ولي ذلك والقادر عليه يارحمن يارحيم.

[email protected]

 

إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٨)

إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٧)

إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!