الهلالية: ملحمة التاريخ وجرح الحاضر… أي السير أولى بالذكر؟
فريق شرطة حقوقي/ عمر المختار النور

نترحم أولا على روح الشاعر المجيد الأستاذ صديق مدثر شاعر قصيدة “ضنين الوعد” ونترحم على روح ملهمته الطاهرة العفيفة ونترحم على روح الأستاذ عبدالكريم الكابلي الذي أداها بإحساس عميق.
في خضم ما تعيشه بلادنا من آلام ونزيف، وفي وقت تلعق فيه الكثير من مدن السودان جراحها وتستحضر سير الأبطال الذين دافعوا عن ترابها، تطالعنا بعض المواقع على وسائط التواصل الإجتماعي في هذه الأيام بمقال يتناول قصة قصيدة غزلية عذبة، “ضنين الوعد”، ويستعيد سيرة ملهمتها الأستاذة الحسناء.
هنا قد يتساءل البعض عن سر هذا التداول الكثيف في هذا التوقيت بالذات، هل هو محاولة للهروب من قسوة الواقع إلى رحاب الفن والجمال ؟، أم لتذكير الناس بلحظات من الصفاء والألق في تاريخ السودان الفني والثقافي؟.
أيا كانت الإجابة فهي مقبولة وتصلح لتبرير لشدة وكثافة التداول، ولكن طالما أن القصيدة وملهمتها إرتبط بمدينة الهلالية، فإن إي تبرير لهذا التداول الكثيف -لمقال كتب قبل سنوات- قد لا يكون مقبولا ومستساغا.
وحسب إعتقادي الشخصي أن هنالك دلالات ومقاصد أخرى وراء إعادة تدوير ونشر هذا المقال في هذا الوقت بالتحديد، فالهلالية ليست مجرد مدينة عادية في خارطة السودان؛ إنها سِفرٌ من تاريخ أمة، وحاضرةٌ لمجدٍ تليد.
حيث كانت الهلالية يوماً ما مقراً لمملكة العبدلاب العريقة، التي لم تكن مجرد كيان قبلي، بل كانت دولةٌ قائمةٌ بأركانها. وبتحالفها الإستراتيجي مع الفونج، أسست مملكة سنار أو الدولة السنارية وهي أول دولة تفتح عهدا جديدا للإسلام في هذه الربوع وتطوي بذلك صفحة الممالك المسيحية التي سبقتها وتوصد الأبواب أمام المد الكنسي تجاه أفريقيا السوداء. كانت دولةً ذات سطوة وسلطان لها عملتها الخاصة، وعلاقاتها الاقتصادية الممتدة. ويُحكى في مآثر قادتها كيف عُبّدت دروب القوافل المتجهة نحو البحر الأحمر، شريان التجارة والحياة، بحرق آلاف الأطنان من دهون الأنعام لتسوية الصخور القاسية وأنها لدلالة على البذل والعزيمة وقوة الإرادة من أجل تمكين دولة الإسلام وتقويتها إقتصاديا.
ولم يتوقف دورها عند الجانب الاقتصادي والسياسي، بل كانت منارةً لنشر الإسلام وحمايته ،حيث خاض قادتها حروباً لتمكين الشريعة والدفاع عنها، ومن أشهر تلك الحروب الحرب التي نشبت مع قبيلة سليم جنوب بحر أبيض بسبب مخالفتهم لأحكام الشريعة بزواج النساء المعتدات قبل انقضاء عدتهن، فكان السيف حَكَماً لإقامة الحدود والحفاظ على الدين.
للهلالية مناقب لا تُحصى في البذل والعطاء والجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق، نقف عند أقربها حدوثا في ذاكرة التاريخ حيث بلغت سيرة البطولة ذروتها في فترات عصيبة، وهي الملحمة التي خاضها أبناء الهلالية في عهد المانجيل الأمين ود مسمار ضد الهمج، حينها هبّ للقتال رجالٌ وشباب وأطفال، كان بعضهم حديث عهدٍ بختان، لمّا تبرأ جروحه بعد ليصدوا غائلة المعتدين في مشهد يخلده التاريخ وتناقلته الروايات وتُغنت به الحرائر وهو ما خلدته أغنية “البجرجر في أم صقير وحدي” وشاعرتها السيدة رقية بت مسمار وقد أداها بشكل رجولي الفنان الراحل خلف الله حمد فنان أغاني الحماسة الأول في السودان- هذه القصيدة وموضوعها الزعيم ود مسمار الجد المباشر للرجل التقي النقي الحافظ والتالي لكتاب الله القرآن الكريم المرحوم اللواء شرطة دكتور طيفور الأمين حسن أجدر بالإحتفاء وإعادة النقل من غيرها في هذا الظرف العصيب بدلا عن قصائد، الغزل العذري التي كان لها نصيب مقدر في ساعات اليسر والدعة ،الآن نحتاج فقط إلى الأغاني التي تستنهض الهمم وتُعلي شأن البطولة خاصة في هذه الظروف والهلالية وغيرها من المدن العريقة تُدمّى وتلعق جراحاً غائرة خلّفتها يد المليشيا المتمردة الغادرة التي عاثت فيها وفي غيرها فساداً ودماراً، في مثل هذا الظرف يبدو الإحتفاء بقصيدة غزل، مهما كانت قيمتها الفنية وجمالها، أمراً غريباً، بل ومؤلماً. ففي الوقت الذي تنزف فيه المدينة وتئن تحت وطأة المعاناة، وتنتظر من أبنائها ومحبيها إستذكار تاريخها المشرف وإستحضار تضحيات الآباء والأجداد العظيمة، ينشغل البعض بقصة حب ولّت قبل عقود.
هل عجزتم أن تدركوا ما أدركه شخص بتواضع قدرات ومحدودية علم وفهم المتمرد “المك أب شوتال” حفيد محمد أبو لكيلك زعيم الهمج والذي قتل جده على يد فرسان الهلالية
-الملحمة التي أشرنا إليها آنفا-وقد أدرك هذا العي أهمية قراءة التاريخ وسجل زيارة للمدينة وهي لمٌا تزل تعاني تحت وطأة الغزاة المرتزقة وتنزف جراء أفعاعيلهم الشنيعة بأهلها هذه الزيارة وحدها كانت كفيلة بأن تعيد للناس عظم ما ألم بها وما أصابها في ما ورثته من إشراقات ومجاهدات وأمجاد ومواقف السلف.
زيارة يجب أن لا تقرأ بأن هذا المتمرد قد أتى ل مواساة أهل مدينة منكوبة، بل هي أقرب إلى رسالة ذات دلالات سياسية معينة، وإسقاطات تأريخية أراد إستدعاءها من الماضي، وهي أيضًا لا تخلو من الشماتة المقيتة والتشفي البغيض، مما يضاعف من شعور أهل المدينة بالخذلان والأسى.
كان من الأجدر بكم جميعاً أن تستلهموا من هذه الزيارة وفي هذا التوقيت الحاسم وتجعلوا منها مجلبة لتاريخ الهلالية البطولي، وأن تسلطوا الضوء على تضحيات أبنائها في مختلف العهود، وأن تحكوا للأجيال سيرتها التي خطتها بالدماء والعرق من أجل بناء الدولة وحماية الدين وصون الأرض. ففي زمن المعاناة
لا أن نحتفي بقصيدة عزل خلقت من كثرة الرد.
حقيقة لا تطيب النفس ل لوك وترديد قصائد الغزل في هذه الأوقات بقدر ما تتعطش لسماع قصص البطولة والفداء التي تُلهم الصمود وتُجدد الأمل في التعافي والنهوض. لتبقى الهلالية منارةً للتاريخ والصمود، وتبقى ذكرى أمجادها الحقيقية هي البلسم الشافي لجراحها التي لم تشفَ بعد.
لا تضعوا الندى في موضع السيف
فشأنكم أن تصدقوا القوم النزال
لا هوااادة